لم يتوقّع أحد من ابن الأمراء وسليل الملوك أن يتخلّى عن كلّ شيء حبًا للملك السماويّ. لكنّ شارل غارنييه عرف من خلال الرياضات الروحيّة للقدّيس إغناطيوس كيف يختار النضال تحت راية يسوع لنشر الإيمان وإعلان البشرى للشعوب المتوحّشة، فيليّن قلبها ويجعلها تتخلّى عن طباعها الشرسة، وتدخل في كنيسة المسيح وترنّم لله التسابيح.
وُلد شارل غارنييه في باريس يوم 26 أيار (مايو) 1606 لأب ثريّ من أعضاء أسرة الملك هنري الثالث. ورغم التَرف الذي عاش فيه، كان قلبه يتوق إلى خدمة الله، ويشتعل غيرة على نشر الدين المسيحيّ في جميع أنحاء العالم. فدخل الرهبانيّة اليسوعيّة وهو في الثامنة عشرة من عمره، ودرس الفلسفة واللاهوت، ونال سرّ الكهنوت سنة 1635. وفي اليوم التالي لرسامته، عَلِم والده أنّه طلب رسميًّا من رؤسائه أن يذهب إلى بلاد الرسالات البعيدة. فعارض رغبته معارضة شديدة، واستعمل جميع ما في وسعه من وسائل ليُبقيه بجانبه. لكنّ الكاهن الشاب تمسّك بما قاله يسوع: "مَن أحبّ أبًا أو أمًّا أكثر ممّا يحبّني فلا يستحقّني". لذلك ألحّ في طلبه، حتى أذعن الوالد لمشيئة ابنه.
وفي يوم 8 نيسان (أبريل) 1636، أبحر مركب من ميناء دِيِيب Dieppe وعلى متنه ثلاثة مرسلين وأحدهم الأب غارنييه. ووصلت السفينة إلى ميناء كيبيك، ونزل اليسوعيّون إلى أرض العالم الجديد، وذهبوا لتوّهم إلى منطقة الأنهار الثلاثة، حيث كان الهورون يقايضون إنتاج العالم الأوروبيّ بفرو الحيوانات التي اصطادوها. وسافروا معهم في الزوارق إلى إيهوناتيريا Ihonatiria، ووصلوها في يوم 13 آب (أغسطس)، حيث استقبلهم الأب يوحنا ده بريبوف، وعكف على تعليمهم لغة الشعب وعاداته.
في سبيل الملكوت
كانت فرحة الأب غارنييه برسالته عظيمة. ففي خطاب بعث به إلى أبيه قال¨"... ما من مكان على الأرض يستطيع أن يمنحني السعادة التي أشعر بها".
وأمضى سننتين في تعلّم اللغة الهورونيّة على يد أستاذ محنّك وهو الأب بريبوف. وبعد ذلك ذهب مع الأب إسحق جوغ إلى أوسّوسانهِ ليبشّرا الهنود البتون Petun، فوجداهم معادين لذويّ الثوب الأسود – وهو الاسم الذي كان الهنود يطلقونه على اليسوعيّين – لِما سرت عنهم من إشاعات تفيد بأنّهم سبب الوباء الذي اجتاح البلاد سنة 1636، فقضيا الشتاء هناك، ثمّ عادا وهما قانعين من الغنيمة بالإياب إلى أوسّوسّانهِ. لكنّ الأب غارنييه لم ييأس، بل عاد ثانية مع الأب بيجار وكان الهنود أقلّ عنفًا من المرّة السابقة لأنّه لم تحلّ بهم مصيبة حين كان اليسوعيّون معهم أو بعد رحيلهم. ومكث الأب غارنييه في تلك المنطقة عدّة سنوات، وأسّس فيها إرساليّتين سلّم الأولى، وهي في إكارِّنيونْدي إلى الأب غارّو، وتسلّم هو الثانية في إتاريتا. وبنى كنيستين، وصار يعلّم الكبار والصغار التعليم المسيحيّ، فكلّل الله جهوده بالنجاح، وفي مدّة قصيرة عمّد 184 هنديًّا.
الراعي الصالح
وفي يوم 7 كانون الأوّل(ديسمبر)، بينما هو يقوم بجولته المعتادة ويزور العُجّز اللذين لا يبرحون أكواخهم بسبب الثلوج، سمع صراخًا: " الإيروكوا... الإيروكوا...". فركض إلى ساحة البلدة، وهناك رأى المغيرين يفتكون بالنساء والأطفال. فصار يحثّ الناس على الهروب إلى الغابة. وفيما هو يتنقّل من كوخ إلى كوخ، اصابته رصاصة في صدره، وأخرى اخترقت أحشاءه، فسقط على الأرض. عندئذٍ، هجم عليه المتوحّشون، وعرّوه من ثيابه، ورموه فوق الثلج ليموت من البرد. وحين استعاد وعيه، رأى محاربًا من أهل قومه بالقرب منه، يتأوّه من الألم. فجمع ما بقي لديه من قوّة، وزحف نحوه بصعوبة، ورآه واحد من الإيروكوا، فانقضّ عليه، وسلخ جلدة رأسه. وأغمد رمحًا في صدغه، خرج سنانه من الطرف الآخر.
ومن بعيد، رأى الأب غارّو، في قرية القدّيس متى، دخانًا كثيفًا يتصاعد من قرية إتاريتا، فأدرك أنّهم هالكون لا محالة. لكنّ العناية الإلهيّة شاءت أن يوقف المغيرون وحشيّتهم عند هذا الحدّ وينسحبوا. وبعد يومين، حضر إلى قرية رفيقة مع بعض الهنود، فوجد جثة الأب غارنييه مجمّدة بالثلج. فغسّله، وحفر حفرة عميقة بالقرب من الكنيسة، ودفنه مع باقي القتلى من إخوته الذين أحبّهم، وبذل ذاته من أجلهم.
أعلن البابا بيّوس الحادي عشر الأب شارل غارنييه اليسوعيّ طوباويًّا يوم 21 حزيران (يونيو) 1925. وزاد البابا نفسه في إكرامه فأعلنه قدّيسًا يوم 29 حزيران (يونيو) 1930. ويُحتفل بعيده في يوم 19 تشرين الأوّل (أكتوبر) من كلّ سنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق