السبت، 28 نوفمبر 2015

القدّيس يوحنا بيركمانس

شفيع الدارسين
"ما أعجبنا فيه على وجه العموم هو أنّه أظهر في فضائله أنّه يتمتّع بنفس تتوق إلى الكمال، وأنّه، بعون النعمة الإلهيّة التي تجاوَب معها إلى أقصى الحدود، أنجز أعماله بكلّ الكمال الذي يمكن الإنسان أن يتصوّره". بهذه العبارة نعى رئيس الدير ابنه الفقيد يوحنا بيركمانس. فالإنجازات الخارقة ليست ضروريّة للقداسة. وسيرة هذا القدّيس خير دليل على ذلك.
ابن الدبّاغ
jean-berchmans-00ولد يوحنا بيركمانس في بلدة ديِيست البلجيكيّة يوم 13 آذار 1599، لأسرة فقيرة تقيّة وفاضلة، ربّته منذ نعومة أظافره على التقوى والإيمان وحبّ الله والقريب. كان أبوه دبّاغًا، وكان يتمنّى أن يدعو ابنه إلى أن يكون كاهنًا. فأرسله إلى دار الإكليريكيّة الصغرى بالأبرشيّة، وهو في التاسعة من عمره، ليباشر دروسه الأساسيّة مع عدد من الأولاد الذين يفكّرون في الدعوة الكهنوتيّة. وهناك، تعلّم يوحنا بيركمانس خدمة القدّاس، وتعمّق في حياة الصلاة، بمساعدة كاهن كان يشرف عليه.
وبعد ثلاث سنوات، اشتدّت الضائقة الماليّة على أهل يوحنا، ولم يعد باستطاعة والده أن يدفع له مصاريف الدروس. فقرّر أن يسحبه من المدرسة، وأن يعلّمه حرفة يرتزق بها فيساعد أسرته في ضيقها المادّي. وكان لقرار والد يوحنا وقع الصاعقة على الفتى الذي أحبّ الدرس، وعشق التعلّم. وعلاوة على هذا كلّه، كان يرغب رغبة شديدة في أن يصير كاهنًا. وإذ بأحلامه تتبدّد، وبآماله تتحطّم على صخرة الفقر والعوَز.
عمَل ودرس
علِم الأب المشرف على الدير في دييست بماساة أسرة بيركمانس. وكان يعرف يوحنا حقّ المعرفة، ويعلم ما في نفسه من فضيلة وتقوى واشتياق إلى سرّ الكهنوت. فعرض على والده أن يأخذه ليخدم في بيته، وأن يتكفّل هو بمصروفاته المدرسيّة. وقبِل الوالد هذا العرض، فذهب يوحنا إلى مُخلِن، وبدأ يخدم المائدة في بيت الأسقف فرويمونت ويلبّي بعض احتياجات رئيسه، ويعتني بطلاب المدرسة الداخليّة، حيث يتابع هو أيضًا دروسه.
وعلى الرغم من صعوبة العمل، كان يقوم بجميع واجباته على أكمل وجه، سواء في الدرس أو في الخدمة. فبعد يوم درس شاق، كان يخدم المائدة، وينظّف الأطباق، ويكنس أرض البيت... ولم يهمل حياته الروحيّة، بل واظب على الصلاة يوميًا وعلى الذهاب إلى القرى في يوم الأحد ليعلّم الصغار التعليم المسيحيّ. وكان التزامه بالحياة الروحيّة والصلاة يمنحه القوّة لكي يتحمّل مشقّات الحياة، وينشر الفرح في نفوس الذين يلتقونه.
اترك كل شيء واتبعني
وشارك يوحنا الطلاب بمدرسته في مسرحيّة تروي حياة أحد الشهداء، وقام بدور الشهيد، فشعر بتعزية كبيرة. واكتشف من خلال قيامه بهذا الدور أنّ الشهادة لا تقتصر على سفك الدم في سبيل الإيمان، بل يمكنها ان تتحقّق كلّ يوم في الإماتات، والتخلّي عن الملذّات الدنيويّة. وفي سنة 1615، فتح الآباء اليسوعيّون مدرستهم في مخلن. فتردّد يوحنا عليهم وتعرّف إليهم. وصار قلبه يميل شيئا فشيئا إلى حياة اليسوعيّين. فقرّر أن يترك المعهد الأبرشيّ، ويدخل الرهبانيّة اليسوعيّة. وحين فاتح أباه بما عزم عليه، حزن والده واغتمّ. لأنّه كان ينتظر رسامة ابنه بفارغ  الصبر. فالكاهن ينال الصدقات والتبرّعات، ويمكنه أن يساعد أسرته بها. أمّا الراهب اليسوعيّ، فهو إنسان ينذر بأن يعيش حياة الفقر، ولا يمكن أسرته أن تستفيد منه ماديًا. ولمّا كان والد يوحنا بيركمانس إنسانًا تقيًا ورعًا، شعر بأنّ قرار ابنه هو دعوة من الله، ولا يحقّ له أن يعارضها. فقبل أن يدخل ولده في الرهبانيّة اليسوعيّة، وباركه وتمنّى له النجاح والتوفيق.
آلام ودموع
jean-berchmans-01وفي يوم 24 ايلول 1616، بدأ يوحنا بيركمانس، وهو في السابعة عشرة من عمره، حياته الرهبانيّة بدار الابتداء في مخلن. وصار قدوة لزملائه في جميع الأعمال التي يقوم بها، لأنّه ينجزها بدقّة وإتقان وفرح، مهما كانت قاسية أو وضيعة. وتعلّم في الابتداء السيطرة على نفسه وعدم الاستسلام لغرائزه. ولم تكن التقشّفات التي يقوم بها على المائدة أو في العمل إلا وسيلة للتقدّم في الحياة الروحيّة. وفي ذلك الحين، توفيت والدته، فهجر أبوه مهنة الدباغة، والتحق بإكليريكيّة الأبرشيّة كاهنًا. ففاجأه النبأ وشكر الله على إيمان أهله، وشعر بأنّ ما فعله والده حافز يدفعه نحو السير قدمًا في طريق الكهنوت. لكنّ فرحته لم تكتمل، لأنّ أباه فارق الحياة إثر مرض عُضال أصابه وهو في الإكليريكيّة، قبيل نذوره الرهبانيّة التي قدّمها يوم 25 أيلول 1618. وذهب يوحنا بيركمانس إلى أنتوورب ليدرس الفلسفة في جامعتها. غير أنّه تلقّى أمرًا بالذهاب إلى روما بعد ثلاثة أسابيع من وصوله إلى تلك المدينة. فسافر للحال،  ووصل إلى المدينة الخالدة يوم 31 كانون الأوّل من السنة نفسها. وأقام في المعهد الرومانيّ.
التجارب
أحبّ يوحنا بيركمانس دروس الفلسفة وبرز فيها. لكنّه لم ينشغل بها عن خدماته داخل الدير، خصوصًا عن خدمة المرضى. وكان يرافق بعض الآباء في يوم الأحد ويصغي إلى عظاتهم بانتباه، ويحلم بذلك اليوم الذي سيقف فيه على مذبح الربّ، يعظ ويمنح المؤمنين الأسرار المقدّسة. وكانت أحلامه تتبدّد أحيانًا حين يأتي المجرّب ليمتحن إيمانه. وكم من مرّة استولى عليه شعور باليأس والقنوط من الصلاة التي كان يعشقها، وكم من مرّة دخل الشك إلى نفسه. وكان كلّما اجتاحته هذه المشاعر، يجثو على ركبتيه ويصرخ بصوت عالٍ: "في رهبانيّتك اليسوعيّة يا رب، ما أنا إلا غصن لا يأتي بثمر. فلا تفصلني عن كرمتك، بل ابعث فيّ برحمتك الوافرة ماء حياة نعمتك".
إرهاق الدروس
وبعد ثلاث سنوات، طلب منه أساتذته أن يستعدّ لمناقشة عامّة علنيّة في حقل الفلسفة سيُعدّها كبار أساتذة هذا العلم. فبذل جهدًا مضاعفًا ليُعدّ امتحاناته النهائيّة، وليستعدّ للمناقشة العلنيّة. وأثّر ذلك في صحّته تأثيرًا بالغًا، لأنّه كان يسهر حتّى ساعة متأخرة من الليل، ويستيقظ باكرًا. وبعد المناقشة العلنيّة التي تمّت يوم 8 تموز، وصل إلى المعهد نبأ يفيد بأنّ المعهد اليونانيّ ينظّم مناقشة مماثلة في عيد تجلّي الربّ في 6 آب، ولمّا كان يوحنا من خيرة التلاميذ، طلب منه أساتذته أن يستعدّ لهذه المناقشة. فأطاع ولم يتذمّر، رغم احتياجه الشديد إلى الراحة، خصوصًا وأنّ علامات المرض بدأت تظهر على وجهه الذي ازداد اصفرارًا. جهد وإعياء كبيران، وحرارة طقس لا تطاق بروما في فصل الصيف، كلّ هذا أثّر في صحته تأثيرًا سيئًا. ففي اليوم الذي تلا مناقشة المعهد اليونانيّ، أصيب بأوّل نوبة دفتريا. واشتدّت عليه الحمّى، وشحب وجهه. ولاحظ الأب الرئيس ذلك، فطلب منه أن يذهب إلى غرفة العلاج الطبّي في الدير.
jean-berchmans-02النزاع
واشتدّت وطأة المرض، وأصيب يوحنا بالتهاب رئويّ، وبدأ جسمه يضعف يومًا بعد يوم. وحضر أعضاء جماعته لزيارته، فحدّثهم حديثًا روحيًا عن الفردوس والرجاء المسيحيّ، وكأنّه كان يعلم بدنوّ أجَله. وفي اليوم التالي، طلب الممرّض كاهنًا ليمنحه سرّ القربان المقدّس، ولم يكن ذلك اليوم يوم أحد، وهو اليوم الوحيد الذي يتناول فيه المؤمنون جسد الرب بحسب عادة أهل ذلك الزمان. وعندما علِم يوحنا أنّ هذا هو تناوله الأخير، غمره فرح روحيّ كبير لأنّه سيكون بالقرب من الربّ بعد فترة وجيزة.
وفي صباح اليوم التالي، حضرت جماعة الدير كلّها، وتناول يوحنا جسد المسيح ودمه ثمّ نال سرّ مسحة المرضى. وترقرقت الدموع في عيون الجميع، لأنّهم كانوا يحبّونه حبًا شديدًا. أمّا هو، فكان يستعدّ لاستقبال سيّده بهدوء وسكينة. وطلب أن يأتوه بصليبه وسبحته وكتاب قوانين الرهبانيّة وقال: "هذه هي الأشياء العزيزة جدًا على قلبي. وإنّني سأموت معها راضيًا". وبعد ذلك، بدأ أصدقاؤه يأتون لتوديعه الوداع الأخير. وكان يستقبلهم بابتسامته المعهودة، ويخفي الألم الذي يعانيه من وطأة المرض. وعند المساء، جمع المريض كلّ ما تبقّى لديه من قوّة، وجثا على الأرض وبدأ يصلّي حتى فارقت الحياة جسده. ففي الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم 13 آب 1621، سمع سكان الدير رنين أجراس الحزن، فعلموا أنّ أخاهم الحبيب يوحنا قد انتقل إلى رحمته تعالى.
 أعلن البابا بيّوس التاسع الأخ يوحنا بيركمانس اليسوعيّ طوباويًّا يوم 28 أيّار 1865. وزاد البابا ليون الثالث في إكرامه، فأعلنه قدّيسًا يوم 15 كانون الثاني 1888. ويُختفل بعيده في يوم 26 تشرين الثاني من كلّ سنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق