الصوم هو إحدى السمات المشتركة للديانات التوحيديّة وغير التوحيديّة. وهو بالتعريف امتناع لفترة محدودة عن الطعام أو عن أيّ شيءٍ آخر كالجنس أو التبرّج أو الكلام المؤذي... وقد مارس الناس في الديانات الشرقيّة الصوم بطرائق مختلفة. فمنهم مَن كان يتناول وجبة واحدة يوميًّا في ساعة متأخّرة من النهار، ومنهم مَن يكتفي بتناول الخبز والماء...
صوم الديانات القديمة
ومارس الفراعنة الصوم، لأنّه في نظرهم أكثر الطرائق جدوى وبساطة لكبح البؤس والضعف والغضب. فبامتناع الصائم عن الطعام يُضعف هذه الرذائل، وينقّي المآت (أي القلب، أو الضمير، أو السلوك الأخلاقيّ) منها. وكان القدماء يرفقون الصوم عن الطعام بانقطاعاتٍ أخرى كالامتناع عن العمل وعن الكلام وعن الجنس وعن مختلف متع الحياة.
ومنذ قديم الزمان أيضًا، وفي جميع الأديان، كان الصوم يتمّ في جوٍّ من الحزن والألم. حين يصوم الإنسان يتألّم ويشعر بمأساة العجز، فينمو لديه شعور بالشفقة والحاجة إلى طلب النعمة وتسوّل الصفح والمغفرة. فيمكننا أن نقول إذًا إنّ صوم الديانات القديمة هو عمل تكفيريّ، وألمٌ ينـزله الإنسان بنفسه فينال منه التنقية، ويطرد عن نفسه – أو عن جسده – جميع أنواع الشرور.
الصوم في العهد القديم
كان اليهود يصومون لأسبابٍ متنوّعة. فمنهم مَن ينذر الصيام لينال نعمةً من السماء، ومنهم مَن يصوم ليشكر الله على نعمةٍ نالها منه، أو ليستغفره من أجل خطيئةٍ ارتكبها. ويسمّون الصوم "استئناس النفس". أمّا الصوم القانونيّ، أي الّذي تفرضه الشريعة على كلّ يهوديّ، فكان لمدّة يومٍ واحدٍ في السنة، وهو العاشر من شهر كيبور (تشرين الأوّل- أكتوبر) في أثناء الاحتفال بعيد التكفير. فقد ورد في سفر الأحبار: "في اليوم العاشر من الشهر السابع، تذلّلون نفوسكم بالصوم ولا تعملون عملاً... لأنّه في هذا اليوم يكفَّر عنكم لتطهيركم" (16: 29-30). فصوم اليهود هو صوم تكفير وتطهير.
اليوم الأوّل هو اليوم العاشر من الشهر العاشر، وهو بدء حصار البابليّين لأورشليم.
اليوم الثاني هو اليوم السابع من الشهر الخامس، وهو يوم خراب الهيكل في أورشليم على يد البابليّين.
اليوم الثالث هو اليوم الثالث من الشهر الرابع، وفيه قُتِلَ الملك جدليّا، آخر ملوك اليهوديّة. وبموته فقد اليهود الحكم نهائيًّا.
"وهذا ما قاله الربّ القدير: صوم الشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر سيكون لبيت يهوذا سرورًا وفرحًا وأعيادًا طيّبة، فأحبّوا الحقّ والسلام" (زكريا 8: 19).
ومنعت الشريعة اليهوديّة الصوم يوم السبت، لأنّ الصوم في هذا اليوم يعني رفض العالم الّذي خلقه الله. واستثنت من هذا المنع يوم التكفير، إذ يجوز الصيام فيه حتّى وإن وقع يوم سبت. وسمحت الشريعة أيضًا بالصوم في السبت إذا رأى شخصٌ كابوسًا في حلمه مساء الجمعة. فالاكتئاب الّذي ينتج عن هذا الكابوس يمنعه من المشاركة في أفراح السبت. ويؤمن اليهود بأنّ الصوم في اليوم التالي للكابوس يلغي القدر المحتوم، ويمنع الحلم المزعج من الحدوث. ولكن على الصائم أن يصوم ثانيةً في أثناء الأسبوع تكفيرًا عن خطيئة صيامه يوم السبت.
سمات الصوم اليهوديّ
إنّه وسيلة تكفير: ففي يوم التكفير، يتذكّر اليهوديّ أنّ الله أبرم عهدًا مع شعبه، لكنّ هذا الشعب خان العهد بخطيئته. لذلك وجب عليه أن يتوب ويصوم. "إئتزروا بالمسوح واندبوا أيّها الكهنة. ولولوا يا خدّام المذبح. ادخلوا الهيكل وبيتوا بالمسوح يا خدّام إلهي... تقدّسوا للصوم ونادوا على الصلاة" (يوئيل 1: 13-14).
وهو أيضًا وسيلة تضرّع: فالصلاة لا تكون حارّة إلاّ إذا رافقها صوم. وغاية التضرّع هي أن يمنع الله مصيبة توشك أن تحلّ بإنسان. حين جاء بنو موآب وبنو عمّون لمقاتلة يوشافاط، "خاف يوشافاط واستنجد بالربّ وأعلن الصوم في جميع يهوذا" (2أخبار 20: 3). وحين هجم أليفانا قائد جيش نبوخذنصّر على اليهوديّة، "صرخ كلّ شعب إسرائيل إلى الله وصاموا، وانسحقوا أمامه، ولبسوا المسوح هم ونساؤهم وأولادهم" (يهوديت 4: 9-10).
والصوم أيضًا وسيلة تواضع، به يذلّل الإنسان نفسه ليعبّر عن خضوعه واستسلامه الكامل لله. "أذللتُ بالصوم نفسي، فصار ذلك عارًا عليَّ" (مزمور 69: 11). فبوساطة الصوم، يقول الصائم لله: لا حول لي ولا قوّة إلاّ بكَ.
والصوم أيضًا وسيلة للقاء الرب. فقد صام موسى أربعين يومًا وأربعين ليلةً ليتلقّى الوصايا من الله ثانيةً بعد أن حطّم اللوحين الأوّلين بسبب عبادة الشعب للعجل الذهبيّ. "ولمّا نزل موسى من جبل سيناء... كان لا يعرف أنّ وجهه صار مشعًّا من مخاطبة الربّ له" (خروج 34: 29). وكذلك استعدّ إيليّا بالصوم للقاء الربّ على جبل الله حوريب (1ملوك 19: 8).
وعلى الرغم من جميع هذه المفاهيم الروحيّة السامية للصوم اليهوديّ، عاش اليهود صيامهم بطريقةٍ حرفيّة شرعويّة خالية من الروح. فثار الأنبياء على الصوم لكنّهم لم يلغوه، وأشاروا إلى ضرورة ممارسته بموقفٍ قلبيّ، وبإتمام شرائع محبّة القريب والعدالة الاجتماعيّة. "فالصوم الّذي أريده أن تُحَلَّ قيود الظلم، وتُفكَّ مرابط النير، ويُطلَقُ المنسحقون أحرارًا، ويُنـزَع كلّ نيرٍ عنهم. أن تفرش للجائع خبزك، وتدخل المسكين الطريد بيتك. أن ترى العريان فتكسوه، ولا تتهرّب من مساعدة قريبكَ" (أشعيا 58: 6-7).
بقي علينا أن نقول إنّ الّذين آمنوا بما قاله الأنبياء في العهد القديم كانوا أوّل مَن ربط في منطقة الشرق الأدنى الصوم بالصلاة والصدقة، كما فعل الهندوس والبوذيّون قبلهم بكثير. "الصلاة والصوم خير، وكذلك الصدقة والإحسان" (طوبيّا 12: 8). وقد ظلّ هذا الارتباط قائمًا في المسيحيّة كما في الإسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق