السبت، 28 نوفمبر 2015

القدّيس شارل غارنييه

لم يتوقّع أحد من ابن الأمراء وسليل الملوك أن يتخلّى عن كلّ شيء حبًا للملك السماويّ. لكنّ شارل غارنييه عرف من خلال الرياضات الروحيّة للقدّيس إغناطيوس كيف يختار النضال تحت راية يسوع لنشر الإيمان وإعلان البشرى للشعوب المتوحّشة، فيليّن قلبها ويجعلها تتخلّى عن طباعها الشرسة، وتدخل في كنيسة المسيح وترنّم لله التسابيح.
Ch.Garnier-00رغمّا عن أنف أبيه
وُلد شارل غارنييه في باريس يوم 26 أيار (مايو) 1606 لأب ثريّ من أعضاء أسرة الملك هنري الثالث. ورغم التَرف الذي عاش فيه، كان قلبه يتوق إلى خدمة الله، ويشتعل غيرة على نشر الدين المسيحيّ في جميع أنحاء العالم. فدخل الرهبانيّة اليسوعيّة وهو في الثامنة عشرة من عمره، ودرس الفلسفة واللاهوت، ونال سرّ الكهنوت سنة 1635. وفي اليوم التالي لرسامته، عَلِم والده أنّه طلب رسميًّا من رؤسائه أن يذهب إلى بلاد الرسالات البعيدة. فعارض رغبته معارضة شديدة، واستعمل جميع ما في وسعه من وسائل ليُبقيه بجانبه. لكنّ الكاهن الشاب تمسّك بما قاله يسوع: "مَن أحبّ أبًا أو أمًّا أكثر ممّا يحبّني فلا يستحقّني". لذلك ألحّ في طلبه، حتى أذعن الوالد لمشيئة ابنه.
وفي يوم 8 نيسان (أبريل) 1636، أبحر مركب من ميناء دِيِيب Dieppe وعلى متنه ثلاثة مرسلين وأحدهم الأب غارنييه. ووصلت السفينة إلى ميناء كيبيك، ونزل اليسوعيّون إلى أرض العالم الجديد، وذهبوا لتوّهم إلى منطقة الأنهار الثلاثة، حيث كان الهورون يقايضون إنتاج العالم الأوروبيّ بفرو الحيوانات التي اصطادوها. وسافروا معهم في الزوارق إلى إيهوناتيريا Ihonatiria، ووصلوها في يوم 13 آب (أغسطس)، حيث استقبلهم الأب يوحنا ده بريبوف، وعكف على تعليمهم لغة الشعب وعاداته.
في سبيل الملكوت
كانت فرحة الأب غارنييه برسالته عظيمة. ففي خطاب بعث به إلى أبيه قال¨"... ما من مكان على الأرض يستطيع أن يمنحني السعادة التي أشعر بها".
وأمضى سننتين في تعلّم اللغة الهورونيّة على يد أستاذ محنّك وهو الأب بريبوف. وبعد ذلك ذهب مع الأب إسحق جوغ إلى أوسّوسانهِ ليبشّرا الهنود البتون Petun، فوجداهم معادين لذويّ الثوب الأسود – وهو الاسم الذي كان الهنود يطلقونه على اليسوعيّين – لِما سرت عنهم من إشاعات تفيد بأنّهم سبب الوباء الذي اجتاح البلاد سنة 1636، فقضيا الشتاء هناك، ثمّ عادا وهما قانعين من الغنيمة بالإياب إلى أوسّوسّانهِ. لكنّ الأب غارنييه لم ييأس، بل عاد ثانية مع الأب بيجار وكان الهنود أقلّ عنفًا من المرّة السابقة لأنّه لم تحلّ بهم مصيبة حين كان اليسوعيّون معهم أو بعد رحيلهم. ومكث الأب غارنييه في تلك المنطقة عدّة سنوات، وأسّس فيها إرساليّتين سلّم الأولى، وهي في إكارِّنيونْدي إلى الأب غارّو، وتسلّم هو الثانية في إتاريتا. وبنى كنيستين، وصار يعلّم الكبار والصغار التعليم المسيحيّ، فكلّل الله جهوده بالنجاح، وفي مدّة قصيرة عمّد 184 هنديًّا.
الراعي الصالح
Ch.Garnier-01لكنّ السعادة لم تدم طويلا. فقبائل الإيروكوا المتوحشّة بدأت تشنّ هجماتها على الهورون، وتحرق قراهم وتقتل مَن يعترض سبيلها وتأكل أجزاء من جسمه. فعاشت المنطقة في هلع وخوف، خصوصًا بعد أن وردت الأنباء عن هجوم المتوحّشين على تينوستايه وحرقها وقتل الأب أنطوان دانيال اليسوعيّ في شهر تموز (يوليو) 1648. وبعد سنة، علِم الهورونيّون بأنّ الإيروكوا ينوون شنّ حرب على البتون، وأقسموا أن يحرقوا قراهم في فصل الشتاء. فساد الهلع نفوس الشعب، واضُطّر الأب غارنييه إلى إرسال رفيقه ميلاد سابانيل إلى قرية القدّيسة مريم لكي لا يزيد عدد ضحايا الهجوم المتوقّع بدون مبرّر، وشرع يتأمّل كلام الإنجيل: أنا الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه في سبيل الخراف. وأمّا الأجير، وهو ليس براعٍ وليست الخراف له، فإذا رأى الذئب مقبلاً، ترك الخراف وهرب. فيخطف الذئب الخراف ويبدّدها. وذلك لأنّه أجير لا يبالي في الخراف.
وفي يوم 7 كانون الأوّل(ديسمبر)، بينما هو يقوم بجولته المعتادة ويزور العُجّز اللذين لا يبرحون أكواخهم بسبب الثلوج، سمع صراخًا: " الإيروكوا... الإيروكوا...". فركض إلى ساحة البلدة، وهناك رأى المغيرين يفتكون بالنساء والأطفال. فصار يحثّ الناس على الهروب إلى الغابة. وفيما هو يتنقّل من كوخ إلى كوخ، اصابته رصاصة في صدره، وأخرى اخترقت أحشاءه، فسقط على الأرض. عندئذٍ، هجم عليه المتوحّشون، وعرّوه من ثيابه، ورموه فوق الثلج ليموت من البرد. وحين استعاد وعيه، رأى محاربًا من أهل قومه بالقرب منه، يتأوّه من الألم. فجمع ما بقي لديه من قوّة، وزحف نحوه بصعوبة، ورآه واحد من الإيروكوا، فانقضّ عليه، وسلخ جلدة رأسه. وأغمد رمحًا في صدغه، خرج سنانه من الطرف الآخر.
ومن بعيد، رأى الأب غارّو، في قرية القدّيس متى، دخانًا كثيفًا يتصاعد من قرية إتاريتا، فأدرك أنّهم هالكون لا محالة. لكنّ العناية الإلهيّة شاءت أن يوقف المغيرون وحشيّتهم عند هذا الحدّ وينسحبوا. وبعد يومين، حضر إلى قرية رفيقة مع بعض الهنود، فوجد جثة الأب غارنييه مجمّدة بالثلج. فغسّله، وحفر حفرة عميقة بالقرب من الكنيسة، ودفنه مع باقي القتلى من إخوته الذين أحبّهم، وبذل ذاته من أجلهم.
أعلن البابا بيّوس الحادي عشر الأب شارل غارنييه اليسوعيّ طوباويًّا يوم 21 حزيران (يونيو) 1925. وزاد البابا نفسه في إكرامه فأعلنه قدّيسًا يوم 29 حزيران (يونيو) 1930. ويُحتفل بعيده في يوم 19 تشرين الأوّل (أكتوبر) من كلّ سنة.

القدّيس يوحنا بيركمانس

شفيع الدارسين
"ما أعجبنا فيه على وجه العموم هو أنّه أظهر في فضائله أنّه يتمتّع بنفس تتوق إلى الكمال، وأنّه، بعون النعمة الإلهيّة التي تجاوَب معها إلى أقصى الحدود، أنجز أعماله بكلّ الكمال الذي يمكن الإنسان أن يتصوّره". بهذه العبارة نعى رئيس الدير ابنه الفقيد يوحنا بيركمانس. فالإنجازات الخارقة ليست ضروريّة للقداسة. وسيرة هذا القدّيس خير دليل على ذلك.
ابن الدبّاغ
jean-berchmans-00ولد يوحنا بيركمانس في بلدة ديِيست البلجيكيّة يوم 13 آذار 1599، لأسرة فقيرة تقيّة وفاضلة، ربّته منذ نعومة أظافره على التقوى والإيمان وحبّ الله والقريب. كان أبوه دبّاغًا، وكان يتمنّى أن يدعو ابنه إلى أن يكون كاهنًا. فأرسله إلى دار الإكليريكيّة الصغرى بالأبرشيّة، وهو في التاسعة من عمره، ليباشر دروسه الأساسيّة مع عدد من الأولاد الذين يفكّرون في الدعوة الكهنوتيّة. وهناك، تعلّم يوحنا بيركمانس خدمة القدّاس، وتعمّق في حياة الصلاة، بمساعدة كاهن كان يشرف عليه.
وبعد ثلاث سنوات، اشتدّت الضائقة الماليّة على أهل يوحنا، ولم يعد باستطاعة والده أن يدفع له مصاريف الدروس. فقرّر أن يسحبه من المدرسة، وأن يعلّمه حرفة يرتزق بها فيساعد أسرته في ضيقها المادّي. وكان لقرار والد يوحنا وقع الصاعقة على الفتى الذي أحبّ الدرس، وعشق التعلّم. وعلاوة على هذا كلّه، كان يرغب رغبة شديدة في أن يصير كاهنًا. وإذ بأحلامه تتبدّد، وبآماله تتحطّم على صخرة الفقر والعوَز.
عمَل ودرس
علِم الأب المشرف على الدير في دييست بماساة أسرة بيركمانس. وكان يعرف يوحنا حقّ المعرفة، ويعلم ما في نفسه من فضيلة وتقوى واشتياق إلى سرّ الكهنوت. فعرض على والده أن يأخذه ليخدم في بيته، وأن يتكفّل هو بمصروفاته المدرسيّة. وقبِل الوالد هذا العرض، فذهب يوحنا إلى مُخلِن، وبدأ يخدم المائدة في بيت الأسقف فرويمونت ويلبّي بعض احتياجات رئيسه، ويعتني بطلاب المدرسة الداخليّة، حيث يتابع هو أيضًا دروسه.
وعلى الرغم من صعوبة العمل، كان يقوم بجميع واجباته على أكمل وجه، سواء في الدرس أو في الخدمة. فبعد يوم درس شاق، كان يخدم المائدة، وينظّف الأطباق، ويكنس أرض البيت... ولم يهمل حياته الروحيّة، بل واظب على الصلاة يوميًا وعلى الذهاب إلى القرى في يوم الأحد ليعلّم الصغار التعليم المسيحيّ. وكان التزامه بالحياة الروحيّة والصلاة يمنحه القوّة لكي يتحمّل مشقّات الحياة، وينشر الفرح في نفوس الذين يلتقونه.
اترك كل شيء واتبعني
وشارك يوحنا الطلاب بمدرسته في مسرحيّة تروي حياة أحد الشهداء، وقام بدور الشهيد، فشعر بتعزية كبيرة. واكتشف من خلال قيامه بهذا الدور أنّ الشهادة لا تقتصر على سفك الدم في سبيل الإيمان، بل يمكنها ان تتحقّق كلّ يوم في الإماتات، والتخلّي عن الملذّات الدنيويّة. وفي سنة 1615، فتح الآباء اليسوعيّون مدرستهم في مخلن. فتردّد يوحنا عليهم وتعرّف إليهم. وصار قلبه يميل شيئا فشيئا إلى حياة اليسوعيّين. فقرّر أن يترك المعهد الأبرشيّ، ويدخل الرهبانيّة اليسوعيّة. وحين فاتح أباه بما عزم عليه، حزن والده واغتمّ. لأنّه كان ينتظر رسامة ابنه بفارغ  الصبر. فالكاهن ينال الصدقات والتبرّعات، ويمكنه أن يساعد أسرته بها. أمّا الراهب اليسوعيّ، فهو إنسان ينذر بأن يعيش حياة الفقر، ولا يمكن أسرته أن تستفيد منه ماديًا. ولمّا كان والد يوحنا بيركمانس إنسانًا تقيًا ورعًا، شعر بأنّ قرار ابنه هو دعوة من الله، ولا يحقّ له أن يعارضها. فقبل أن يدخل ولده في الرهبانيّة اليسوعيّة، وباركه وتمنّى له النجاح والتوفيق.
آلام ودموع
jean-berchmans-01وفي يوم 24 ايلول 1616، بدأ يوحنا بيركمانس، وهو في السابعة عشرة من عمره، حياته الرهبانيّة بدار الابتداء في مخلن. وصار قدوة لزملائه في جميع الأعمال التي يقوم بها، لأنّه ينجزها بدقّة وإتقان وفرح، مهما كانت قاسية أو وضيعة. وتعلّم في الابتداء السيطرة على نفسه وعدم الاستسلام لغرائزه. ولم تكن التقشّفات التي يقوم بها على المائدة أو في العمل إلا وسيلة للتقدّم في الحياة الروحيّة. وفي ذلك الحين، توفيت والدته، فهجر أبوه مهنة الدباغة، والتحق بإكليريكيّة الأبرشيّة كاهنًا. ففاجأه النبأ وشكر الله على إيمان أهله، وشعر بأنّ ما فعله والده حافز يدفعه نحو السير قدمًا في طريق الكهنوت. لكنّ فرحته لم تكتمل، لأنّ أباه فارق الحياة إثر مرض عُضال أصابه وهو في الإكليريكيّة، قبيل نذوره الرهبانيّة التي قدّمها يوم 25 أيلول 1618. وذهب يوحنا بيركمانس إلى أنتوورب ليدرس الفلسفة في جامعتها. غير أنّه تلقّى أمرًا بالذهاب إلى روما بعد ثلاثة أسابيع من وصوله إلى تلك المدينة. فسافر للحال،  ووصل إلى المدينة الخالدة يوم 31 كانون الأوّل من السنة نفسها. وأقام في المعهد الرومانيّ.
التجارب
أحبّ يوحنا بيركمانس دروس الفلسفة وبرز فيها. لكنّه لم ينشغل بها عن خدماته داخل الدير، خصوصًا عن خدمة المرضى. وكان يرافق بعض الآباء في يوم الأحد ويصغي إلى عظاتهم بانتباه، ويحلم بذلك اليوم الذي سيقف فيه على مذبح الربّ، يعظ ويمنح المؤمنين الأسرار المقدّسة. وكانت أحلامه تتبدّد أحيانًا حين يأتي المجرّب ليمتحن إيمانه. وكم من مرّة استولى عليه شعور باليأس والقنوط من الصلاة التي كان يعشقها، وكم من مرّة دخل الشك إلى نفسه. وكان كلّما اجتاحته هذه المشاعر، يجثو على ركبتيه ويصرخ بصوت عالٍ: "في رهبانيّتك اليسوعيّة يا رب، ما أنا إلا غصن لا يأتي بثمر. فلا تفصلني عن كرمتك، بل ابعث فيّ برحمتك الوافرة ماء حياة نعمتك".
إرهاق الدروس
وبعد ثلاث سنوات، طلب منه أساتذته أن يستعدّ لمناقشة عامّة علنيّة في حقل الفلسفة سيُعدّها كبار أساتذة هذا العلم. فبذل جهدًا مضاعفًا ليُعدّ امتحاناته النهائيّة، وليستعدّ للمناقشة العلنيّة. وأثّر ذلك في صحّته تأثيرًا بالغًا، لأنّه كان يسهر حتّى ساعة متأخرة من الليل، ويستيقظ باكرًا. وبعد المناقشة العلنيّة التي تمّت يوم 8 تموز، وصل إلى المعهد نبأ يفيد بأنّ المعهد اليونانيّ ينظّم مناقشة مماثلة في عيد تجلّي الربّ في 6 آب، ولمّا كان يوحنا من خيرة التلاميذ، طلب منه أساتذته أن يستعدّ لهذه المناقشة. فأطاع ولم يتذمّر، رغم احتياجه الشديد إلى الراحة، خصوصًا وأنّ علامات المرض بدأت تظهر على وجهه الذي ازداد اصفرارًا. جهد وإعياء كبيران، وحرارة طقس لا تطاق بروما في فصل الصيف، كلّ هذا أثّر في صحته تأثيرًا سيئًا. ففي اليوم الذي تلا مناقشة المعهد اليونانيّ، أصيب بأوّل نوبة دفتريا. واشتدّت عليه الحمّى، وشحب وجهه. ولاحظ الأب الرئيس ذلك، فطلب منه أن يذهب إلى غرفة العلاج الطبّي في الدير.
jean-berchmans-02النزاع
واشتدّت وطأة المرض، وأصيب يوحنا بالتهاب رئويّ، وبدأ جسمه يضعف يومًا بعد يوم. وحضر أعضاء جماعته لزيارته، فحدّثهم حديثًا روحيًا عن الفردوس والرجاء المسيحيّ، وكأنّه كان يعلم بدنوّ أجَله. وفي اليوم التالي، طلب الممرّض كاهنًا ليمنحه سرّ القربان المقدّس، ولم يكن ذلك اليوم يوم أحد، وهو اليوم الوحيد الذي يتناول فيه المؤمنون جسد الرب بحسب عادة أهل ذلك الزمان. وعندما علِم يوحنا أنّ هذا هو تناوله الأخير، غمره فرح روحيّ كبير لأنّه سيكون بالقرب من الربّ بعد فترة وجيزة.
وفي صباح اليوم التالي، حضرت جماعة الدير كلّها، وتناول يوحنا جسد المسيح ودمه ثمّ نال سرّ مسحة المرضى. وترقرقت الدموع في عيون الجميع، لأنّهم كانوا يحبّونه حبًا شديدًا. أمّا هو، فكان يستعدّ لاستقبال سيّده بهدوء وسكينة. وطلب أن يأتوه بصليبه وسبحته وكتاب قوانين الرهبانيّة وقال: "هذه هي الأشياء العزيزة جدًا على قلبي. وإنّني سأموت معها راضيًا". وبعد ذلك، بدأ أصدقاؤه يأتون لتوديعه الوداع الأخير. وكان يستقبلهم بابتسامته المعهودة، ويخفي الألم الذي يعانيه من وطأة المرض. وعند المساء، جمع المريض كلّ ما تبقّى لديه من قوّة، وجثا على الأرض وبدأ يصلّي حتى فارقت الحياة جسده. ففي الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم 13 آب 1621، سمع سكان الدير رنين أجراس الحزن، فعلموا أنّ أخاهم الحبيب يوحنا قد انتقل إلى رحمته تعالى.
 أعلن البابا بيّوس التاسع الأخ يوحنا بيركمانس اليسوعيّ طوباويًّا يوم 28 أيّار 1865. وزاد البابا ليون الثالث في إكرامه، فأعلنه قدّيسًا يوم 15 كانون الثاني 1888. ويُختفل بعيده في يوم 26 تشرين الثاني من كلّ سنة.

صلاة البابا فرنسيس ليوبيل الرحمة

أيّها الربُّ يسوع المسيح
يا مَن علّمَنا أن نصيرَ رُحَماء مثلَ الآبِ السماوي
وقالَ: مَن يَراني يراه.
أرِنا وجهَك فنخلُص.
إنّ نَظرَتَك المُحِبّة حرَّرَت زكّا ومتى من عبوديّة المال
وحرَّرَت المرأةَ الزانية مِن البحثِ عن السعادة فقط في الأشياءِ المخلوقة
وجعَلت بطرسَ يبكي بعدَ خيانتِه وأمَّنَت الفردوسَ للصِّ التائب.
أعطِنا أن نسمعَ الكلمات التي وجّهتَها للمرأة السامريّة كأنَّها موَجَّهة لكلِّ واحدةٍ وواحدٍ منّا:
"إن كنتِ تعرفين عطيّة اللـه!"
أنتَ الوجهُ المنظور للآبِ غيرِ المنظور
للـّهِ الذي يُظهِر قوّتَه فوقَ كلِّ شيء بالغفرانِ والرحمة
إجعَل الكنيسةَ تَصيرُ وجهَك المرئي في العالم، وجهَ ربِّها القائِم والممَجَّد.
أردتَّ أن تختارَ خدّامًا وخادمات ضعَفاء لكي يتعاطَفوا مع الذين في الجَهل والخَطأ
أعطِ لكلِّ مَن يقتربُ منهم أن يَشعُرَ بأنَّه مرغوبٌ ومحبوبٌ ومغفورٌ له مِن اللـه.
أرسِل روحَك وكرِّس كلَّ واحدٍ وواحدةٍ منّا بمشحته
فيَصير يوبيلُ الرحمة سنةَ رضًا من لدن الربِّ
ولتَنقُل الكنيسةُ بحماسةٍ جديدة الخبرَ السارَّ للفقراء
وتُعلِن الحريّةَ للأسرى والمظلومين وتُعيد النظرَ للأعمى.
نسألكَ هذا أيّها الربُّ يسوع بشفاعة مريم أمِّ الرحمة
أنتَ الذي يحيا ويَملِك مع الآب والروحِ القدس إلى أبد الآبدين.
آمين. 

الأب أندره دالْفِرْني

إنّه الأب أندره دالْفِرْني، من مواليد مدينة تُولُون بجنوب فرنسا يوم 11/04/1907.
كان والده ضابطًا استُشهد في خدمة وطنه، ممّا كان له أثر في شخصيّته التي اتّسمت بالبذل والعنفوان. تخرّج عند اليسوعيّين في مدرسة مُونْغرِيه والتحق برهبانيّتهم في الثامنة عشرة من عمره يوم 29/10/1925. 
andre-d-alvernyوبعد أربع سنوات أُرسل إلى بلدة بكفيّا في جبل لبنان حيث درس العربيّة مدّة غير قصيرة (من 1929 إلى 1933) حتى  ملك ناصيّتـها. بعد رسامته كاهنًا في 14/08/1938، وفي إثر رحلة إلى تونس للقيام ببعض الأبحاث، اضطّرته الحرب الكونيّة إلى أن يظلّ هناك (1942-1945) فأسّس مدرسة أدار شؤونها ثلاث سنوات، وسلّمها بعد ذلك إلى مَن يُتابع رعايتها، وعاد إلى لبنان حيث أمضى بقيّة عمره.
دارت حياة الأب دالفرني وتركّز نشاطه على محورين أساسيّين: التربية وتعليم العربيّة. فما إن عاد إلى لبنان حتى تسلّم إدارة مركز تعليم لغة الضاد في بكفيّا، فبقي في هذه المهمّة طوال تسع عشرة سنة، وقد تخرّج على يده عدد كبير من الرهبان اليسوعيّين وسواهم، إضافة إلى مُستشرقين ودبلوماسيّين غربيّين. وكان لا يكتفي بتدريس اللغة بل يتطرّق أيضًا إلى ما يشرّع أمام طلابه أبواب معرفة الحضارة العربيّة والإسلاميّة. وقد دوّن خبرته الطويلة هذه وتمرّسه في تعليم الترجمة، إن في بكفيّا أو في معهد الآداب الشرقيّة التابع لجامعة القدّيس يوسف ببيروت، في عدد من المقؤلّفات سيأتي ذكرها.
أمّا في حقل التربية فقد تولّى مدّة نحو عشرين سنة إدارة مدرسة تكميليّة لرهبانيّته في بكفيا تميّزت باعتمادها أساليب تربويّة تنمّي في الطلّاب حسّ المبادرة والشعور بالمسؤوليّة والالتزام. وترافق ذلك مع تشجيعه حركة الكشفيّة في البلدة المذكورة وفي لبنان وكان من أوائل مؤسّسيها فيهما، كما كان من أوائل المنخرطين في صفوفها بفرنسا في العام 1921.
توفي في الثامنة والخمسين وقد أنهكته الأشغال.

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2015

سرّ الحياة


سأعترف أنّني في بعض الأحيان أميل للهروب من الاحتفال بالذكريات اليوبيليّة، ٥٠ سنة زواج على سبيل المثال، أو بالأحداث الجديدة، كولادة طفل جديد في عائلتنا. هذا لا يعني أنّني لا أهتمّ لأمرها، لكنّني لا أبالغ في ردّات فعلي. لأنّ هذه الأحداث بالنسبة لي هي مجرّد سياق بديهيّ في حياتنا… الأولاد يولدون في كلّ يوم، ومعدّل الأعمار المرتفع يعني أنّ الناس سيحتفلون بعيد ميلادهم الخمسين بشكلٍ بديهي… حتّى أنّنا نستطيع أن نقول أنّ عيد الميلاد الثمانين بات نوعًا ما اعتياديّ. لكن ما وصلتُ إلى إدراكه مؤخّرًا، أنّ هذه الاحتفالات الّتي لطالما تغاضيت المشاركة فيها، ما هي إلّا احتفالات بمعجزات حياتنا اليوميّة بحقّ!
نعم، قد يكون التقدّم في العمر، والولادة مجرّد ضرورة بيولوجيّة وحسب. لكن علينا أن نحتفل بمقدرة أحّدهم على العيش لفترةٍ تُناهز القرن بما يحمله من تاريخ واختباراتٍ شخصيّةٍ. وعلينا أن نسبّح الله على إبداعه في تكوين هذه المنظومة المعقّدة والرائعة الّتي تكوّنت في أشهر، وأبصرت النور وأصبحت إنسانًا على صورة خالقه. وأمام حقيقة أنّ هذه الأمور تحدث في كلّ يوم، علينا ألّا نغفل عن سرّ الحياة الّذي يقدّمه الله لنا. هذا السرّ الّذي على الرغم من اعتياديّته، ما زال يأثرنا كلّما تأمّلنا به.

درب الصليب، تأمّلات مختارة من كتابات أبونا يعقوب

صلاة افتتاحيّة:

يا ربَّنا يسوع المسيح، يا مَن أفهَمتَني فضلاً عن كثيرين، فرطَ حبِّك نحوي، ودعوتَني اليومَ لأزدادَ أكثر فأكثر تعمّقًا به، ساعدْني لأسيرَ من الآن وصاعدًا بكلِّ شجاعةٍ في منهاجِ الصليب الملوكيّ حيث، عند كلِّ خطوة، أراكَ بالقرب منّي. إمنحْني خاصّةً هذه النعمة، وهي أن أفهمَ سعادتي القائمة بعملِ إرادةِ الله مكرِّرًا نظيرَكَ هذا القولَ السامي: “يا أبتِ… لا مشيئتي، بل مشيئتُك!” (لو 22/42).
وأنتِ يا مريم، يا أمّ الرحمة، إطبعي في عمق فؤادي ذكر هذه المشاهد الأليمة التي تأثّر يسوع من جرّائها، حتّى أكونَ في المستقبل إبنًا طائعًا له دائمًا أبدًا، هو الحيّ المالك مع الله الآب باتّحاد الروح القدس إلى دهر الداهرين، آمين.

المرحلة الأولى: لنتأمّل يسوع محكومًا عليهِ بالموت

“شُتِم ولم يَرُدَّ على الشَّتيمةِ بمثلِها. تألَّمَ ولم يُهَدِّدْ أحدًا، بل أسلمَ أمرَه إلى مَنْ يحكُم بالعدل، وهو الذي حَمل خطايانا في جسدِه على الخشبة لكي نموت عن خطايانا فنحيا للبرّ” (1 بط 2/23).
تأمّـل: يسوع الرحوم لا يجد من يرحمه. أصدقائه هربوا؛ بقي وحده بين أعدائه، وانتظر الحكم عليه. جلس بيلاطس على كرسيه في محلّ مرتفع، ويسوع واقفٌ تحت موطئ قدمَي الحاكم. الإله يسوع يصنع إرادة الإنسان، يا له من انقلاب! العبد مرتفع والسيّد منخفض؛ الشرّير يتباهى والبارّ يتلاشى؛ العدم يتكلّم، والكلمة يسكت!
يا يسوع، يا مَن حنَيتَ رأسك أمام حكم بيلاطس، وسكتَّ دونَ أن تبرهنَ للأرضِ برارتَك وتطلبَ من السماءِ نصرتَك، علَِّمني أن أحتملَ حكم الناس عليّ، وأن أسكتَ باحتمالي الشكوى إن كنتُ بريئًا.

المرحلة الثانية: لنتأمّل يسوع حاملاً صليبَه على منكبَيه

“بسببِ عناءِ نفسِهِ يرى النُّور، ويَشبَعُ بعلمِه، يُبرِّرُ عبْدِيَ البَّارُ الكثيرين، وهو يحتمِلُ آثامَهُم” (أشعيا 53/11).
تأمّـل: مثلما حمل إسحق الحطب المُعدَّ للمحرقة؛ ومثلما يحمل الملك صولجانه دلالة على سلطانه المطلق على كلّ الشعب؛ ويحمل الظافر آلة تذكار ظفره؛ هكذا خرج يسوع وذهب للقاء صليبه وقبّله وحمله على كتفه بفرح “فصارت الرئاسة على كتفه، ودُعي اسمه عجيبًا مُشيرًا إلهًا جبّارًا أبا الأبد رئيس السلام” (أشعيا9/6).
لقد رضيتَ يا يسوع بحمل الصليب، ليس فقط لخلاصي بل لتعلّمَني وتشجّعَني على حمل صلبان حياتي.

المرحلة الثالثة: لنتأمّل يسوع ساقطًا تحتَ الصليبِ للمرّةِ الأولى

“نيره على عنُقي، أوهنَ قوّتي. أسلمني السيّد إلى أيدٍ لا أستطيع مقاومتها” (مراثي1/14).
تأمّـل: خارت قِوى الربّ فسَقط… سقط من “غطّى جلالُه السماوات وامتلأت الأرض من تَسبحته”(حبقوق 3/3)؛ سقط “ليقوّي الأيدي المسترخية ويشدّد الرُكب الواهِنة” (أشعيا 35/3). سقط يسوع وجبل التراب بدمه الزكيّ، فانفتح بابُ الفردوس وأُدخل الإنسانُ المطرود.
يا سيّدي، من الناس مَن يرفض الصليب، ومنهم من يجرُّهُ بتذمّر، ومنهم من يرفعُه قليلاً عن الأرض خوفًا من التعب. ساعدني لأكونَ من الذين يحملونه مرفوعًا على كتفيهم فرحين.

المرحلة الرابعة: لنتأمّل يسوع ملتقيًا أمَّهُ الحزينة


«بماذا أُمثّلكِ وماذا اُشبِّهُ بكِ، يا بنتَ أورشليم؟ ماذا أُساوي بكِ فأعزّيَكِ، أيّتها العذراء بنتُ صهيون؟ لأنّ تحطُّمَكِ عظيمٌ كالبحر، فمن ذا يشفيكِ؟” (مراثي 2/13).
تأمّـل: مريم ما أمكنها أن تحمل الصليب مع ابنها، لكنّها حملَته في قلبها. إنّه لسيفٌ رهيب! ها هي تسلّم إرادتها لإرادة ابنها، وتنظرُ إليه، وكأنّه يقول لها: يا خليلتي، إرجعي إلى الفُلك حتّى تجفَّ مياهُ طوفان الأوجاع. لا يوجد لك محلٌّ هنا بين الجلاّدينَ والشتّامين. أجابت مريم بشجاعةِ الأمّ، وأمانةِ الأمّ، وحنانِ الأمّ: إنّ فُلكي ومحلّي وراحتي هو وجودي معك، هو حيث أنتَ تكون.
يا مريم أمّي، سيري معي على دروب الحياة كما سرتِ معَ ابنِكِ؛ ثبّتي خطواتي وقوِّمي سبُلي.

المرحلة الخامسة: لنتأمّل يسوع معانًا من سمعان القيروانيّ في حملِ الصليب

“سخّروا لحمل صليبه أحد المارّةِ سمعان القيرينيّ أبا الاسكندر وروفُس، كان آتيًا من الريف” (مر 15/21).
تأمّـل: كلّفوا سمعان بحمل الصّليب عن يسوع، لا حبًّا به، بل خوفًا من أن يموت قبل الصّلب، فيكون قد نقص شيءٌ من بغْضِ وانتقامِ الصالبين. أمّا يسوع فرضِي بمسيرة الجلجلة هذه لكي يتمّمَ خلاصنا.
إنّي أريدُ قبل موتي أن أكونَ قيروانيًّا لك يا يسوع، مساعدًا إخوتي حاملي الصليب بعناء، وإن صادفتُ نكرانَ جميلٍ أو كنتُ رازحًا تحت ثِقْلِ حملي، كُنْ لي يا يسوع قيروانيًّا!

المرحلة السادسة: لنتأمّل ﭬـيرونيكا ماسحةً وجهَ يسوع بالمنديل

“دعوتُ مُحبِّيَّ فغدروا بي… سمِعُوا إنّي أتنهَّد فلم يكُن مَن يُعزّيني… جميعُ أعدائي فتحوا عليَّ أفواههم، صَفَرُوا وصَرَفوا الأسنان، قالوا: قد ابتلعناه. هذا هو اليومُ الذي انتظرناه، وقد وَجَدْناه ورأيناه” (مراثي1/19و21؛ 2/16).
تأمّـل: أين رسُلكَ يا يسوع؟ أين الجماهير التي أشبعتَها طعامًا وشفَيتَ مرضاها؟ وحدها ﭬـيرونيكا أعلنَت جهارًا، غير هيَّابة، حبَّها لكَ، وبمنديلها مسحَت وجهكَ، فانطبعت حالاً صورتُكَ عليه. نظيرَها نستطيعُ أن نمسح وجهكَ: فوجهُكَ هم المساكين، هم الجياع، هم الباكون، هم المرضى، هم العميان والعُرج والمعاقون والعجزة.
يا يسوع، إجعلني أمسحُ وجهك الإلهيّ في خدمتي بأطيابِ إيماني وبلسمِ محبّتي وزيتِ رجائي.

المرحلة السابعة: لنتأمّل يسوع ساقطًا تحت الصليبِ للمرّةِ الثانية

“مراحمُ الربّ لم تنتهِ، لأنّ رأفته لا تزول. هي جديدة في كلّ صباح، وأمانته عظيمة” (مراثي3/22).
تأمّـل: ها هوذا ملك السماوات وخالق المسكونة ساقطٌ على الأرض مرَّة ثانية تحت الصليب الثقيل. سقط يسوع ليدنو منك ويعطيك يده! إنّه رجل الأوجاع، رجل الطاعة والتواضع، رجل الواجب والعمل، رجل الحبّ والتضحية، رجل التسامح وبذل الذات…
شدّدني بقوّتك يا يسوع، لأصبح قادرًا على أن أَنهَض وأُنهِضَ الآخرين، وأحمِلَ إليهم مراحمَك التي لا تنتهي، ورأفتك التي لا تزول.

المرحلة الثامنة: لنتأمّل يسوع معزّيًا بنات أورشليم

“تبعه جمعٌ كثير من الشعب، ومن نساء كنَّ يضربن الصدور وينُحن عليه. فالتفت يسوعُ إليهنَّ فقال: “يا بناتِ أورشليمَ، لا تبكيِنَ عليَّ، بل ابكين على أنفسكُنَّ وعلى أولادكُنَّ” (لو 23/27).
تأمّـل: مَن أراد أن يجفِّف الساقية يجب أن يقطع مياهَ العين. نبع عذاب يسوع هو الخطيئة؛ وهو لم يمنع البكاء على آلامه، لكنّه يرغب أن نبكي على خطايانا التي هي سبب آلامه.
يا يسوع إلهي ليّن قلبي الذي لا يبكي، أنِر عقلي الذي لا يُدرك، إقمع إرادتي التي تُقاوم، فإنّي نادِم من صميم قلبي على خطاياي.

المرحلة التاسعة: لنتأمّل يسوع ساقطًا تحتَ الصليبِ للمرّة الثالثة

“إغتسِلوا وتطهَّروا، وأَزيلوا شرَّ أعمالكم من أمامِ عينيَّ، وكُفُّوا عن الإساءَة. لو كانت خطاياكم كالقِرمزِ تبيضُّ كالثلج، ولو كانت حمراء كالأرجُوان تصير كالصوف” (أشعيا 1/16).
تأمّـل: إنّ السبب الذي من أجله سقط يسوع مرّة ثالثة هو أنّه بسط على الأجيال الماضية والمستَقبَلة أيدي الرحمة والشفقة، إلاَّ أنّهم لكثرة جنونهم سخروا بمحبّته لهم. اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم، لأنّ إلهنا إلهٌ غفور وكثير الرحمة، لا يُريد موت الخاطئ بل حياته.
في الصليب الخلاص، في الصليب الحياة، في الصليب الحماية، في الصليب فرح الروح، في الصليب كمال القداسَة. قوِّني يا يسوع لكي أقبلَ صليبي قلبًا وقالبًا.

المرحلة العاشرة: لنتأمّل يسوع معرًّى من ثيابه ومسقيًّا خلاًّ ومرًّا

“جَعَلُوا في طَعَامي مَرَارةً وفي عطشي سَقَوني خلاًّ” (مز 68/22).
تأمّـل: يسوع تعرَّى من كلّ شيء ما خَلا حبَّه الشديد لنا، عن هذا فقط عجز أعداؤه وجلاّدوه. تعرّى ابن الله، المتوشّح بالنور، المُلبِس البشر ثيابًا، والسماء غيومًا، والطيور ريشًا، والأرض نباتًا وزهورًا، ليكسوَ الخاطئ ثوب النعمة، ويكفّر عن عري آدم…
يا قلب يسوع إلهي، أستحلفك أن تنـزع من قلبي كلّ تعلُّق مغاير ومضاد لعواطف قلبك الأقدس.

المرحلة الحادية عشرة: لنتأمّل يسوع مسمَّرًا على الصليب

“أرفعُ عينيّ إلى الجبال، من أين تأتي منه نُصرتي؟ نصرتي مِن عندِ الربِّ صانعِ السّماواتِ والأرض” (مز 120/1).
تأمّل: اليدان اللتان شفتا المرضى وأقامتا الموتى، ولم ترتفعا إلاّ للمباركة، تسمَّران اليوم! والرِجلان اللتان تعبتا في التفتيش عن البائس تُثقبان! والقلب الذي ما انفكّ أبدًا عن الحبّ يُجرَح! باستحقاق آلامه، كتب صكّ خلاصنا، لا على ورق بل على جسده الإلهيّ، لا بقلم بل بمسمار من حديد، لا بحِبر بل بدمه الأقدس!
طوبى لمن تسقيه يا إلهي من هذه المرارة التي شرِبْتَها؛ طوبى لِمَن هيْئةُ عارك جعلتْه يحتقرُ أباطيلَ العالم؛ طوبى لِمَن مساميرُك قد سمّرتْهُ على صليبِك بشِدّة، حتّى إنّه ما عاد يقدر أن يمدّ يديه وذراعيه إلاّ نحو السماء.

المرحلة الثانية عشرة: لنتأمّل يسوع مائتًا على الصليب

“أُحْصِيَ مع العصاة وهو حمل خطايا الكثيرين وشفع في معاصيهم” (أشعيا 53/12).
تأمّـل: المكان واحد، الصليب واحد، الفادي واحد، ومع ذلك لصّ يخلُص ولصّ يهلك في يوم خلاص البشر! قد هلك بالقرب من شجرة الحياة؛ فما القول عن الذين هم بعيدون. “أيّها اللصّ، ما نسيتَ مهنتك، حتّى وأنتَ معلّق على الصليب. كنتَ تنهبُ الناس خيراتهم، وهنا اختلسْتَ وانتشلْتَ الفردوس الأبديّ” (يوحنّا فم الذهب).
يا يسوع حبيبي، نظِّف نفسِي، إغسلها بدمك، زيّنها بنعمك لتكون عند النفس الأخير معروفة منك وعروسَة لائقة للجلوس معك في ملكوتك السماويّ.

المرحلة الثالثة عشرة: لنتأمّل يسوع منزَلاً عن الصليب وموضوعًا بين ذراعَي أمّه

“قال لأمِّه: “أيّتها المرأة، هذا ابنك”. ثمّ قال للتلميذ: “هذه أمُّك”. (يو 19/26).
تأمّـل: قبْل موته أعطانا المسيح أمّه، فأضحت أمّ البشر أجمعين. إنّها حقًّا أمّ الله، ومحبّتها تفوق كلّ محبّة أموميّة، وعذابها أيضًا. هي تشعر نحونا بمشاعر الأمّ نحو ابنها، تحمينا وتدافع عنّا.
يا مريم، عندما أُنزلَ وحيدكِ عن الصليب، قبِلتْهِ وقبَّلتهِ ووضعتهِ في حضنكِ، فاجعليني أحذو حذوكِ.

المرحلة الرابعة عشرة: لنتأمّل يسوع موضوعًا في القبر

“جاء رجل اسمه يوسف وهو امرؤٌ صالحٌ بارٌّ، وكان ينتظر ملكوت الله، فأنزله عن الصليب ولفّه في كتّان، ووضعَه في قبرٍ حُفِر في الصخر لم يكن قد وُضعَ فيه أحد” (لو 23/50 – 53).
تأمّـل: خلق الله السّماوات والأرض بكلمة، أمّا عمل الخلاص فكلّفه موت ابنه. ما قيل عن راحة الله في اليوم السابع، دلَّ على راحة المسيح في القبر؛ إلاّ أنّ هذا الجسد الفاقد الروح، يسهر عليه الله الآب، والملائكة تحيط به وتكرّمه.
علِّمني يا يسوع أن أدفن معكَ في القبر أميالي ورذائلي، حتّى أستحقّ نظيركَ دخول السماء.

المرحلة الخامسة عشرة: لنتأمّل يسوع قائمًا من بين الأموات

“أمّا وقد قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في العُلى لا في الأمور التي في الأرض، لأنّكم قد متُّم وحياتُكم محتجبةٌ مع المسيح في الله. فإذا ظهر المسيح الذي هو حياتكُم، تظهرون أنتم أيضًا عندئذٍ معه في المجد” (قول 3/1- 3).
تأمّـل: عبثًا طلب من يسوع أعداؤه أن ينـزل عن الصليب ليؤمنوا به. لم يلبِّ طلبهم بل سلّم ذاته إلى الموت، والموت أماته. أمّا في قيامته فقد تغيّر كلّ شيء: رجل الأوجاع صار ملكَ المجد؛ ألميْتُ يقتلُ اليوم الموت!
المجد لجسدك يا إلهي الخارج ظافرًا من القبر، وللاهوتك المعلِن قدرتك ببهاءٍ وسناءٍ عجيبَين.

الاثنين، 16 نوفمبر 2015

العدالة في الرياضات الروحيّة

مؤخرًا، فكرت مليًّا كيف أنّ مفهوم عدالة الله ينسجم تمامًا مع الرياضات الروحيّة الإغناطيّة. فمفهومنا الاعتياديّ عن العدالة هو أن يحصل الشخص على ما يستحقّه. ولكن مفهوم العدالة عند الله هو عبارة عن رغبة بأن نكون كاملين في الحبّ والرحمة.
justice-01
كان القدّيس إغناطيوس رجلّ عسكريّ من إقليم كاستاليا، عضوًا في منظومة تسعى لتحقيق العدالة عن طريق الاقتتال، والأسر، والانتقام. بعد أن أُسِر إنيغو (الاسم الأصلي للقدّيس إغناطيوس قبل اهتدائه)، وأُستُعمِرت أرض "النفار"، سعى المواطنون دحر الغزاة خارج البلاد، في معركةٍ حُصِرت فيها قلعة عائلة اغناطيوس. يُخبرنا القدّيس إغناطيوس في مذكّراته الشخصيّة، كيف رغب بالانتقام من مسافِرٍ تكلّم بالسوء على السيّدة العذراء. في الحقيقة لقد كانت نظرة القدّيس إغناطيوس لمفهوم العدالة مختلفة كليًّا عن نظرة الله لها.
يظهر التحوّل الذي حدث لفهم القدّيس اغناطيوس للعدالة في الأسبوع الأوّل من الرياضات الروحيّة، عندما يقضي المتريّض وقته في إعادة استذكار خطاياه الشخصيّة. وبعد أن يشعر المتريّض بالاشمئزاز تُجاه خطيئته، يكتشف أنّ الله باقٍ بإخلاصه وحبّه، وأنّ القدّيسون يستمّرون بالصلاة والتشفّع من أجله.
تفتحنا تأمّلات الأسبوع الثاني على الخطيئة الاجتماعيّة أيضًا. فنحن نشهد كيف أنّ المسيح كشف حقيقة الخطيئة أنظمة العدالة وفسادها في أيّامه. فعدالة المسيح هي عبارة عن نداء للفريسيّين أو للمرأة الزانية للوصول إلى الكمال. فلم تكن عدالته إدانة  بلّ حبٌّ غفور متعاطف.
justice-00في الأسبوع الثالث من الرياضة، تتجسّد عدالة الله على الصليب، لم يدين العالم على خطاياهم بل حملَها بنفسه. على الصليب غفر المسيح لقاتليه. وبالطبع، يخرج هذا النوع من العدالة عن مفاهيم الطبيعة البشريّة.
أخيرًا، في الأسبوع الرابع تظهر عدالة الله من خلال نعمة الحبّ الّتي يُغدقها علينا، فيمنحنا الشفاء والكمال. فيأتي في كتاب الرياضات: "أنظر كيف أنّ جميع الخيرات وجميع الهبات تنحدر من علُ، فمثلاً كيف أنّ قدرتي المحدودة تنحدر من القدرة العلويّة السامية واللامتناهية، وكذلك البرّ والصلاح والتحنّن والرحمة، إلخ، كما أنّ الأشعة تنحدر من الشمس، والمياه من الينبوع." (ر.ر ٢٣٧).
كيف لنا أن نعيش عدالة الله في حياتنا بشكلٍ تامّ؟ يمكننا أن نتعلّم من الرياضات الروحيّة وبمثال يسوع المسيح. فالله يبقى مُخلصًا بمغفرته، وأمينًا لندائه لكلّ واحد منّا نحو "المزيد من الكمال"، لا يدين أبدًا، بل يمنحنا المحبّة والرحمة. فبدلاً من الانتقام أو المحاولة لضمان نظام عدلٍ تامّ، نستطيع الاقتراب كلّنا بكلّيتنا ممتلئين بالعطف والرغبة بأن نكون كاملين. هذه هي العدالة الحقّ.

قبول المعاناة


لطالما أغوتنا فكرة أنّنا بمأمن عن المعاناة والألم لأنّنا مسيحيّون صالحون. إذ نتخيّل وعد الله لنا بحمايتنا يعني أنّه سينقذنا من جميع أنواع الآلام. ولكنّ الأمور ليست على هذا النحو. يجعل يسوع المعاناة جزءًا طبيعيًّا من الحياة المسيحيّة. فوعَدَ تلاميذه بنعمٍ وافرةٍ، ولكنّه أعقب ذلك مشيرًا إلى حتميّة المعاناة: "فقالَ يسوع: الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أُمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِئاتَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة". (مرقس 10: 29-30).
إذًا فالمعاناة ليست خيارًا للمسيحيّين، بل هي أمرٌ مضمون.
Question-About-Suffering-2في اللغة، كلمة "معاناة"  تعني الألم أو الحزن طويل الأمد، خسارة أو ضرر مستمرّين، أن نكون عُرضة لإعاقة دائمة أو مرض، وفي نهاية المطاف الوصول إلى الموت. يأتينا الألم بجميع أشكاله، فالإزعاجات اليوميّة تحبطنا، وكذلك الفشل المتكّرر يُضعف من عزيمتنا، والديون التي لا نستطيع إيفائها تضغطنا، والعلاقات المتفكّكة تُجهِدنا، والكآبة تفتك بنا. والعنف يجرح أو يؤذي من نحبّ، وكذلك المرض يجتاحنا أو يأخذ واحد من أفراد عائلتنا. المعاناة بلاءٌ على جميع الأشخاص. 
لم يعدنا المسيح بالمعاناة فقط؛ بل جعل تلك الصلبان الشخصيّة كمتطلبات يوميّة لتلاميذه :"وقالَ لِلنَّاسِ أَجمَعين: ((مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني))." (لوقا 9: 23). نُعلن رسمنا لإشارة الصليب على وجوهنا موافقتنا على هذا الشرط للتلمذة. وبذلك نحمل صليبنا ونقبل كلّ شكلٍ من أشكال المعاناة قد يعترض مسيرة حياتنا. وبها نقول إنّنا نُرحّب بالمعاناة ضمن شروط الله. وبأنّنا نُخضِع إرادتنا – التي لا تريد تحمّل الألم - إلى الله، تمامًا كما أخضع يسوع إرادته إلى أبيه عندما أَسلم نفسه على الصليب. وبهذا نرى أنّ اتّباع صليب المسيح له تبعاته الخطيرة. 
السلام في ظلّ جناحيه 
يميل المسيحيّون لإراحة المتألّمين بذكر فوائد الألم والمعاناة. فنحن نقول: "المعاناة تبني الشخصيّة"، ولكن يجيبنا المتألّم: "لا أريد هذه الشخصيّة… بل أُريد المساعدة". وهنا يأتي السؤال الحتميّ: " لماذا يسمح الله بحدوث الأمور السيئة؟" و "أين هو الله حين أتألّم؟". 
رعاية الأهل لأطفالهم تقترح علينا إجابات لكِلا السؤالين. على سبيل المثال، لنفترض فتاةً في السابعة من عمرها تتجوّل في رحلتها الأولى وهي تركب دراجتها الهوائيّة. يهرول والدها بجانبها، وفجأةً يرى بأنّها سترتطم بحجرة في الطريق. ولكنّه يقاوم رغبته الداخليّة بأن يصل للدراجة ليحافظ على توازنها. فالأب يرغب أن تتعلّم ابنته قيادة الدراجة بثقة، لذا لم يمنعها من الوقوع. عندما أصبحت الفتاة قبالة المطبّ، فزعت وسقطت على الرصيف، وجرحت كوعها وركبتها. احتضنها الأب بين زراعيه ومنحها الشعور بالراحة والأمان. ثمّ حملها إلى المنزل، نظّف جروحها وطبّبها، احتضنها وروى لها قصّتها المفضّلة. 
Question-About-Suffering-3إنّ الله هو مثل ذلك الأب. فهو يتيح لنا أن نكتشف طُرقنا، لكنّه يبقى دائمًا بجانبنا. هو لا يمنع الأمور السيئة من الحدوث لأنّه يريدنا أن نتعلّم كيف نتعامل بثقةٍ مع المحن. ولكن عندما نعاني، يحتضننا الله ويبقى معنا. يشاركنا آلامنا، يمدّنا بدوافع الحياة، ويعزّينا. 
هذه هي رسالة الصليب، فرسمها على أجسادنا تفتح آذاننا لنسمعها. إنّ ابن الله الوحيد صار بشرًا في المسيح، وبطبيعته الإنسانيّة، عانى الله الرفض، والذلّ، والسخرية، والهجر، واللطم، والجلد، والصلب والموت. تحمّل معاناته كإنسان لذا فهو قادر على إراحتنا في معاناتنا. 
عندما نرسم إشارة الصليب نحن ندعو الربّ ليشاركنا آلامنا. فنحن نلمس جبهتنا ومن ثم ننتقل إلى صدرنا، طالبين من الرب بتلك الإشارة أن يحنو علينا. ثمّ ننقل يدنا بحركة أفقيّة بين الأكتاف نسأل فيها الله أن يدعمنا في معاناتنا. في العديد من المزامير، يتغنّى داوود بالاحتماء تحت ظلّ جناحيّ الرّب، والتي فسّرها آباء الكنيسة بطريقة نبويّة بأن نجد الأمان في ظلّ ذراعيّ المصلوب (مزمور 17: 8؛ 36: 7؛ 57: 1؛ 61: 4؛ 63: 7). ذراعيّ الربّ الممدودتان تَعِداننا بأنّهما يفهمان معاناتنا ويشاركاننا إيّاها. 
كما تنبّأت المزامير كذلك سفر تثنية الاشتراع، فالصليب هو مكان اللجوء. فقد جاء في رواية وداع موسى وكأنّه يصف ظلّ الصليب في الأفق، وهو يرنو إلى أرض الميعاد. مؤكّدًا لبني اسرائيل أنّ ذراعي الرّب ستحميهم في مضائقهم:  
"مَلجَأُكَ الإِلهُ الأَزَلِيّ، ومِن تَحتِه الأَذرُعُ الأَبَدِيَّة. طَرَدَ العَدُوَّ مِن أَمامِكَ". (تثنية ٣٣: ٢٧).
 بتنا نرى اليوم الصليب بشكلٍ واضح كإشارة لرحمة الله وتعزيته. فالله يمدّ لي الله ويمنحني النعمة والدعم. عندما تصيبني المشاكل، ارسم إشارة الصليب، وأقول: "احضنّي يا ربّ بأذرعك الأبديّة، نجّني من التجارب، وأرحمني". لأنّه إله يتألّم معي، وينصرني، كما تألّم على الصليب وانتصر.